ليس ثمّة كتابٌ سماوي تعهّد الله سبحانه وتعالى بحفظه سوى القرآن الكريم، فالكتب المنزلة من التوراة والإنجيل والزبور ونحوها أوكل الله حفظها للأقوام الذين نزلت عليهم، وفي ذلك يقول الحق في محكم تنزيله: { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} (المائدة:44)، ويختلف الأمر بالنسبة للقرآن الكريم، حيث تولّى حفظه بنفسه، فلا مجال للتلاعب في آياته وتحريف كلماته على أي وجهٍ كان.
وقد هيّأ الله سبحانه وتعالى لهذا الحفظ أسباباً كونيّة كانت سبباً في تحقّقه، وذلك حين يسّر تواتره بين الخلائق حتى حفظوه عن ظهر قلبٍ، وصار حفّاظه في كلّ عصرٍ من العصور ما لا يُحصون عدداً، وكما تحقّق هذا الحفظ بالصدور فقد حُفظ بالسطور، ومبدأ ذلك حين اتّخذ النبي –صلى الله عليه وسلم- كتّاباً للوحي، وطلب من المؤمنين ألا يكتبوا عنه سوى القرآن الكريم؛ حتى لا يختلط كلام الله تعالى بغيره، ولذلك قال عليه الصلاة وأزكى السلام: ((لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمْحُه)) رواه مسلم في صحيحه.
وبهذا تناقلت الألسن القرآن الكريم مكتوباً ومقروءاً، ليبرز في التاريخ أسماء لامعةٌ نالت شرفاً عظيماً اختصّوا به دون العالمين، وقد عُرفوا بـ"كتّاب الوحي"، ومن أولئك الكوكبة العظيمة: علي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وخالد بن سعيد بن العاص، وأبي بن كعب، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وحنظلة بن الربيع، ومعاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهم أجمعين
وبعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- وتولّي أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه الخلافة من بعده، تنامت الحاجة لتدوين كتاب الله تعالى، خصوصاً بعد حروب الرّدة الطاحنة التي دارت رحاها في هذه المرحلة التي شهدت مقتل الكثير من الصحابة الكرام الذين كانوا يحملون القرآن بين صدورهم، فكانت الرؤية الثاقبة والنظرة البعيدة لمصلحة الأمة بعد المشورات التي حدثت بين أعظم رموز الأمة آنذاك: أبي بكر الصديق وعمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، والتي انتهت بتكليف زيد بن ثابت رضي الله عنه لهذه المهمة.
يحدّثنا زيد رضي الله عنه عن تلك الحادثة فيقول: " بعث إليّ أبو بكر لمقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بقراء القرآن في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، وإنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتتبّعْ القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلّفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليّ مما كلفني من جمع القرآن!، قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر: هو والله خير، فلم يزل يحث مراجعتي حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ورأيت في ذلك الذي رأيا، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب والرقاع واللخاف وصدور الرجال، وكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله عزّ وجل، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر" رواه البخاري.